الجمعة، 16 ديسمبر 2011

نقطة تحول




تناولتُ القلم

كثيرة هي الأفكار بمخيلتي, من أين سأبدأ؟
سهوت قليلا.. سقط القلم من يدي فرُسمت نقطة على الورقة ..

كانت سوداء..لكنها جميلة. و لو غيرت القلم لكانت زرقاء, حمراء, خضراء.. أو ربما بيضاء.
تأملت كامل الورقة, بالكاد تُرى.. وَرَّقْتُ الكراس, فضاعت النقطة.
كذلك هي لحظات الحياة, فيها المعتم ,و فيها الملون حسب الزاوية التي نظرنا منها.
 كذلك هي لحظات الحياة, كالنقطة: صغيرة في معناها ,بسيطة في محتواها.. لكنها يمكن أن تكون بداية لمسارات أو عناصر أساسية لجسور و ممرات.

رُسِمت على ورقتي البيضاء نقطة, و رُسِمت في حياتي عديد النقاط كانت نقاط تحول.. ربما لم أنتبه لمعظمها, لكني على الأقل أذكر أجملها..
أولها؟
كنت صغيرة حينها, تعلمت البسملة و كنت أحب و أفرح حين أتذكرها لوحدي: بسم الله حين آكل, بسم الله حين أشرب, بسم الله حين أدخل, بسم الله حين أخرجبسم الله .. بسم الله أحيا, و بسم الله تنعم حياتي..
لكني كنت أنساها كثيرا, و ببراءة طفولية كنت أجلس في زاوية لوحدي أردد البسملة عشرات المرات مكونة بذلك ما سميته "رصيدا احتياطيا", و حين أتعب أمد يدي للدعاء راجية من الله عز و جل أن كلما نسيتها في أحد أعمالي, أن يأخذ من رصيدي و يضعها في مكانها( أو بالأحرى زمانها) المرجو. واصلت على ذاك الحال حتى تعودت على تذكرها, لأني فعلا أدركت معناها و سر بركة الأعمال التي تليها..
*****
يقول الله عز وجل:  
"وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌّ" سورة هود 41

*****
أضحك الآن من سذاجة تفكيري, لكنها طريقة مميزة جعلتني أذكر الله في كل وقت و حين. لم أكن أُدرك الأشياء كما وجب إدراكها, و لم أكن أفقه فعلا معنى الخشوع و التدبر عند الذكر. ما كان يستحوذ على تفكيري حينها هو أن أقول أشياء تسر الله فهو يراني.
"ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه" علي بن أبي طالب
  رصيد احتياطي من البسملة, بعده كلفت نفسي برصيد يومي من الذكر و التسبيح, فرصيد من بعض الواجبات و الأعمال اليومية...كم هي جميلة تلك البراءة الطفولية و عبادة الله دون وجود أشياء تلهينا..

✿✿✿✿✿
رن الهاتف
- السلام عليكم, كيف الحال أخية
- الحمد لله, أسأل عنك فيم انشغالك لم تجيبي البارحة على رسائلنا اليومية؟؟
- أعتذر حبيبتينمت مبكرا البارحة فقد انشغلت طوال اليوم بتنظيف المنزل و غسل الستائر ثم فرش الأرضية
- و كأني بك تقولينها و أنت مبتهجة؟؟ كم أكره تلك الأشغال المنزلية
- ...
  
منذ صغري كنت أحب مساعدة أمي في أعمالها اليومية, لكني لم أتصور يوما أن لتلك الأعمال سر خاص.. 
سر اكتشفته من خلال آية قرآنية..
*****
يقول الله سبحانه و تعالى:
"تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" الإسراء 44
*****

استوقفتني هذه الأية منذ أول وهلة.. "و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم"
 بتفكير فتاة بسيطة أدركت وقتها أن لن أفقه تسبيح الأشياء من حولي. "وإن من شيء" ؟؟؟ كتبي, كراساتي, فراشي, ملابسي, الأشجار في حديقتنا , الزرابي و المفروشات, الأرضية و أيضا تلك الزوايا المنسية... ذاك كل ما استطاع عقلي الصغير استيعابه ..
 بسذاجة تفكير فتاة صغيرة صرت أحترم كل الأشياء من حولي, كنت أنظر لأغراضي مطولا و أدرك أنها تسبح بحمد ربها لكني في كل الأحوال لن أفقه تسبيحها.. أصبحت أحب العناية بكل الأغراض في المنزل, أحب ترتيبها, أحب تنظيفها .. صرت أحب الأشغال المنزلية التي تشتكي منها بعض النساء.. كيف لا و هي تسبح لربها بكرة و عشيا؟؟ صرت أحتسب العناية بتلك الأشياء من حولي فالله طيب و لا يقبل إلا طيبا (رواه مسلم)

و إن كنت فهمت الحديث في غير سياقه حينها, إلا أن تلك الأية كان لها أثر كبير في حياتي, بفضل ربي و لله الحمد..


ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل‏‏ وفي حديث أبي ذر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ في يده حصيات‏,‏ فسمع لهن تسبيح كطنين النحل‏‏ وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان,‏ رضي الله عنهم, وهو حديث مشهور في المسانيد‏ وقال الإمام أحمد‏...‏ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه مر علي قوم وهم وقوف علي دواب لهم ورواحل‏,‏ فقال لهم‏‏ اركبوها سالمة‏,‏ ودعوها سالمة‏,‏ ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق‏,‏ فرب مركوبة خير من راكبها‏,‏ وأكثر ذكرا لله تعالى )

"وإنه لمشهد كوني فريد‏,‏ حين يتصور القلب كل حصاة وكل حجر‏,‏ كل حبة وكل ورقة‏,‏ كل زهرة وكل ثمرة‏,‏ وكل نبتة وكل شجرة‏,‏ كل حشرة وكل زاحفة‏,‏ كل حيوان وكل إنسان‏,‏ كل دابة علي الأرض وكل سابحة في الماء أو الهواء‏..‏ ومعها سكان السماء‏...‏ كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه" من تفسير الظلال لسيد قطب

✿✿✿✿✿

تأملت الورقة..راقني أثر النقطة التي فاض حبرها, كما راقتني تلك الأشياء التي يحسبها البعض بسيطة أو مجرد  ترهات, لكنها بالنسبة لي كانت مهمة و غيرت بالفعل مجرى الحياة.

*****
قال تبارك وتعالى :
"إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ* وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر" القمر 49- 50
*****


الاثنين، 7 نوفمبر 2011

يا أبتِ افعل ما تُؤمر



تجمعت العائلة في الباحة الأمامية للمنزل لتشهد مراسم الذبح. كان الطقس جميلا للغاية، السماء زرقاء صافية، الجو رطب والشمس تُلقي بأشعتها الخريفية اللطيفة مداعبة الوجوه وباعثة الدفء في القلوب. فكأن الطبيعة تزينت واخضرت لتشارك المسلمين فرحتهم بعيد الأضحى العظيم. تقدم رؤوف وقد حدّ شفرته، ثم انحنى على الكبش وبحركة سريعة ذبحه فكانت المفاجأة.. لم أكن أطيق ذاك المنظر ولولا ثواب رؤية القطرات الأولى من الدم لما تقدمتُ أكثر..

وعنْ عائِشةَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عمَلاً أحَبَّ إلى اللهِ - عز وجل - مِنْ هراقةِ دَمٍ، وإنَّهُ ليَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ بِقُرُونِها وأظْلافِها وأشْعارِها، وإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِن اللهِ - عز وجل - بِمَكانٍ قَبْلَ أنْ يَقَعَ على الأرْضِ، فَطِيبُوا بِها نَفْسًا))؛ الترمذي وابن ماجه.

كان المشهد رهيبا.. رفع الكبش رأسه عن الأرض واستوى جالسا في حين كان الدم ينهمر من رقبته شلالا متدفقا.. لم يكن وجهه يوحي بأي شيء، كأنه سليم معافى يرعى العشب! وماهي إلا لحظات حتى أغمض عينيه وخرّ على الأرض وقد فُكّ وثاقه. ثم بدأ يُصدر ذاك الصوت .. نوع من الشخير ورعشة اهتز لها جسمه ... وبعد لحظات سكن كل شيء ومات.

كنت أحمل ابنة أختي ذات العامين، فأشارت بإصبعها الصغير إلى الضحية وهمست : "أُخ ماء" ورغم هيبة المشهد لم أتمالك نفسي من الضحك .. بل هي الدماء .. فسبحان الذي سخر لنا هذا من غير حول لنا ولا قوة...

"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً " الإسراء 70.

سبحان العلي الكريم الذي فدى عبده إسماعيل بذبح عظيم ويا لها من سُنة طيبة وعطاء جسيم، أن نسير على خُطى إبراهيم الخليل في إنابته واستقامته وخُلقه العظيم. فهذا ابنه إسماعيل وفلذة كبده، رزقه الله إياه على الكبر ثم أمره بتركه وأمه عند واد غير ذي زرع ومرت السنين الطوال، "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" الصافات 102.

فيا للانصياع التام لأوامر الله والتسليم، ويا لبر الولد بأبيه وتوكله وصبره على البلاء العظيم وسبحان الرحمان الرحيم .. يا له من امتحان نجح فيه الخليل ليكون أُسوة للعالمين فأين أنتم من هذا يا مسلمين؟

الله لم يأمرنا بذبح أبنائنا بل فقط أمرنا بالصلاة والزكاة ومكارم الأخلاق، أمرك يا أختي بالحجاب، أمرك أخي بغض البصر، بإكرام الضيف وبالإنفاق، أمرنا ببر الوالدين والإحسان إلى الجار، أمور كلها هينة لينة فلم التخاذل والاستهتار؟ لماذا نتجرأ على محارم الجبار ونطأطئ رؤوسنا لشهواتنا ونركن للذل والانكسار ؟

 لقد شرع لنا ربنا هذا العيد العظيم ليذكرنا بتسليم الخليل وتوكله وصبر إسماعيل وتبتُله وماهو الإسلام إن لم يكن التسليم بأمر العزيز الجليل الذي ما خلقنا إلا لنعبده، وماهي الأضحية إن لم تكن قربانا إلى الله نعلن به إذعاننا وندخل به السرور على أهلنا وأحبابنا ونطعم منها الفقراء والمساكين ونقوم بحق الضيف وكلنا يقين .. بأن أمر الله لا يُرد ومسكين من أعرض عنه مسكين ..

"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا" الأحزاب 36.

الحمد لله على نعمة العيد أعاده الله علينا باليمن والخير والبركة

قال تعالى : "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ" (الحج: 36، 37)

الخميس، 3 نوفمبر 2011

... وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى




كانت تمشي وحيدة، تتوقّف أمام واجهات المحلّات، تتأمّل الملابس المعروضة، تتنهّد ثمّ تمضي ... لم يكن لديها المال الكافي كي تبتاع كلّ تلك الأشياء الفاخرة، أنهت دراستها و منذ سنوات و هي عاطلة عن العمل ، لا تستطيع أن تعين عائلتها البسيطة ... واصلت طريقها و هي تفكّر : لو أنّي كنت ثريّة لآشتريت ذاك الفستان .. و تلك الحقيبة الثّمينة ... لكن هيهات ...

يقول الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم: "قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقَنَّعه اللّه بما آتاه" ( رواه مسلم )

و عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ. ( أخرجه أحمد والبُخاري والترمذي)

قطع حبل أفكارها صوت مألوف يناديها ، التفتت فإذا هي صديقة الطّفولة : رائدة ! يا لها من مفاجأة !
لم تسرّها كثيرا رؤيتها ، لطالما كانت صديقاتهما يفضّلنها عليها ... ابتسمت ببرود و حيّتها ، فاحتضنتها رائدة و سألتها عن أحوالها بكلّ حفاوة :"كيف حالك عزيزتي؟  كم اشتقت إليك ! أرى أنّك لم تتغيّري ! دائما تفكّرين... يا عبقريّة ! "

ابتسمت على مضض، هي تحبّها "رغم كل شيء"، لكن مزاجها لم يكن يسمح لها أن ترد بمثل ذلك اللّين و الدّعابة : أنا بخير ... و أنت ماذا تفعلين هنا؟ 
ـ أتيت لأقتني بعض الحاجيّات، و الملابس ... آه ! كم هي شاقّة تحضيرات الزّفاف ! 
 
أحسّت بضيق يخالج صدرها، و تتالت الأفكار في ذهنها : لِم يحدث هذا لي ؟! لِم تحصل هي على كلّ شيء و أنا لا ! هي جميلة جدّا، ثريّة جدّا، أنيقة، متفوّقة في دراستها، متميّزة في عملها، و الآن ستتزوّج ! 
 
ـ أرى أّنّك متعبة، لن أثقل كاهلك بمشاغلي. سأعودك إن شاء اللّه قريبا و أدعوك و عائلتك لحفل الزّفاف ... سنتحدّث حينها أكثر و ستُعدّين لي قهوتك اللّذيذة . و الآن أستأذنك لأنصرف، والدتي تنتظرني في السّيّارة. السّلام عليكم ! 
همهمت مرتبكة : حسنا، لا بأس ... مبارك عليك الزفاف ... إلى اللقاء ...
واصلت سيرها هائمة ، استرجعت تلك المحادثة القصيرة و سرعان ما تفطّنت لهول ما ... أحسّت ! 
الحسد ! مرض يستفحل في قلب عشّاق الدّنيا فيصعب منه الشّفاء و نار تتأجّج في وجدانهم فتُصيّر عملهم هباء !


قال تعالى : " أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ" ( سورة النّساء، الآية 54 )

قال تعالى : وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (طه 131)


وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال :" لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد اللّه إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " (رواه مسلم)

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :" لا يزال النّاس بخير ما لم يتحاسدوا " (رواه الطبراني)
 
يقول الإمام السّمرقندي في كتابه " تنبيه الغافلين" : ليس شيء من الشّرّ أضرّ من الحسد، لأنه يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروه: 
* أوّلها : غمّ لا ينقطع
* و الثّاني : مصيبة لا يُؤجر عليها
* و الثّالث : مذمّة لا يُحمد بها
* و الّرابع : يسخط عليه الرّبّ  
* و الخامس : تُغلَق عليه أبواب التّوفيق
 
ثم يضيف في نفس الباب : 
 
بارز الحاسد ربّه من خمسة أوجه : 
* أوّلها : قد أبغض كل نعمة قد ظهرت على غيره.
* و الثّاني : سخط لقسمته.
* و الثّالث : أنّه ظن بفضله.
* و الّرابع : خذل وليّ اللّه تعالى لأنّه يريد خذلانه و زوال النعمة عنه.
* و الخامس : أعان عدوّه، يعني إبليس لعنه اللّه .

تنفسّت بهدوء ، و أخذت تستغفر اللّه ، و تدعو لصديقتها و لنفسها : اللّهمّ طهّر قلبي و اشفه من كلّ مرض ، اللّهمّ ارزقني ممّا رزقت رائدة !
 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ.(أخرجه أحمد والترمذي و غيرهما)




الجمعة، 28 أكتوبر 2011

أنتَ قدوة



تأخر القطار, اكتظت المحطة خاصة مع نزول أول قطرات المطر..

دنت من صديقتها و همست في أذنها:" أشعر بالخوف"

فأجابتها بكل ثقة:" لا تخافي مادمت حذوك, لا تخافي لن يجرأ أحد على إيذائك.. أنا معك سأحميك.."
الأولى كانت منتقبة, و الثانية لم تكن ترتدي الحجاب أصلا.

كنت واقفة على مقربة منهما, كنت أيضا قلقة فقد تأخر الوقت و مازالت رحلتي طويلة. كان صوت همساتهما يصلني و كأن إحداهما كانت تتعمد أن تسمعني ما يدور بينهما. التفت, ألقيتا التحية بابتسام, و ما أجمل ذلك السلام بين الأخوات دون كلام..

الجميل في الموقف أن كلاهما كانت تحتمي بالأخرى. أعجبني ما سمعت و راقني ما رأيت: مختلفتان في الظاهر, يُخيل للناظر أنهما متناقضتان, لكن من منا يستطيع قراءة ما يخفيه الباطن من أسرار؟؟

أعجبني حزم الثانية و هي تقول "لا تخافي ..سأحميك" أعجبني موقفها و هي تشجع صديقتها على الثبات. لم أسعى لسماع بقية الحوار فما سمعته في البداية أثلج صدري و أشعرني بالطمأنينة.

 بالكاد لمحت نظرات الفتاة الأولى فبدا لي و كأن عينيها مبتسمتان.. أما صديقتها الواقفة قبالتي  فقد كانت نظرتها مليئة بالتحدي.

 شد انتباهي ذلك التناسق بينهما,  أدهشني ذلك التكامل بين التشابه و الاختلاف...
تساءلت في نفسي إن كانت الفتاة الأولى قد قامت بواجب الدعوة و النصيحة تجاه صديقتها, و الجواب كان واضحا فالقدوة هي الدعوة.

*****
يقول الله عز وجل: 
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) -النحل 125-
 
*****
✿✿✿✿✿
دغدغت تلك الحادثة ذاكرتي, لازلت أذكر إحدى الأخوات حين كانت تُمنع من الدخول إلى المبيت الجامعي فتلتف صديقاتها حولها. كُنَّ يُكَوِّنَّ شِبهَ حلقة لتقف وسطها و يَدْخُلنَ كمجموعة على نفس الخطى كي لا ينتبه الحارس أن هناك فتاة محجبة  تختبئ بينهن, حتى أنها كانت تحمد الله  لأنها لم تكن طويلة القامة فينكشف أمرها..

في تلك الفترة كانت جاراتها في الغرفة من مختلف الجهات لكنَّهُنَّ في أصعب الظروف متحدات. كانت الأخت ممنوعة من الدخول حتى إلى محل للمواد الغذائية لشراء بعض الحاجيات, لكنها لم تكن تكترث لذلك الإقصاء فقد كانت جاراتها تساعدنها في أبسط الأمور و تشجعنها على الثبات. في الواقع كن يدركن الحق و مقتنعات و لو لم يَكُنَّ وقتها ملتزمات...

كُنَّ يتحدثن في الأمور الدينية و يتنافسن في الدراسة كما في الأذكار اليومية, يصلين أحيانا جماعة, يتبادلن الكتب الدعوية..إلى أن وصلن إلى حملة جماعية لإيقاظ الكل لقيام الليل و صلاة الفجر يوميا..

أذكر أنها كانت  قليلة الكلام, و أحسب أن صمتها فيه كثير من المعاني- و لا أزكي على الله أحدا-. لم نسمعها كثيرا تشتكي بلواها رغم أن الكثير كبلوا خطاها. كانت تدعو للحارس بالهداية و أن ينشغل عند دخولها حتى لا يراها..
*****
مر أبو الدرداء (رضي الله عنه) على رجل قد أصاب ذنبا فكانوا يسبونه فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم! قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله فإذا تركه فهو أخي.

و عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :إذا رأيتم أخاكم قارفا ذنبا فلا تكونوا أعوانا للشيطان عليه تقولوا: اللهم اخزه! اللهم العنه! ولكن سلوا الله العافية، فإنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كنا لا نقول في أحد شيئا حتى نعلم علام يموت فإن ختم له بخير علمنا أنه قد أصاب خيرا وإن ختم له بشر خفنا عليه.
*****
✿✿✿✿✿
ليس المراد من نقل القصتين التسوية بين الطاعة و المعصية, و العياذ بالله, إنما في كلتا الحادثتين رأيت كثيرا من الصبر من الطرفين (و الله أعلم بذات الصدور) و تأكدت مرة أخرى أن الدين و الخلق لؤلؤتان مضيئتان أبدا لا تتجزءان...

الدين أفضل ما نبغيه والخلق            هما لنا في حياة العمر منطلق
نبني لنا بهما دنيا واَخرة                 على أساس مكينٍ ليس ينخرق
(أبيات للشاعر محمد بن عبد الله آل ملحم)


وصل القطار.. فنزل ركاب و صعد آخرون.. توكلت على الله و مضيت في رحلتي..

 

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

لبيك اللهم لبيك



الله أكبر

دوت في أرجاء الحرم المكي فاهتز لها قلبي أيما اهتزاز، كان أعظم أذان سمعته في حياتي، وقعت كل كلمة منه في صميمي. صوت التوحيد دوى كالرعد، مذكرا أن لا إله إلا الله الواحد الأحد. وحانت مني التفاتة فرأيت طفلة هندية انفجرت باكية، قد أفزعها صوت الأذان إذ انبعث عاليا دون استئذان. وعبثا حاول والداها تهدئتها فلم تزل تبكي وترتعد. كان مشهدا لطيفا ومؤثرا في آن واحد، جعلت أنظر لها ولسان حالي يقول : لا تبكي يا صغيرتي فهذا صوت الحق والتوحيد واليوم جمعة، اليوم يوم عيد..

نعم كان يوم عيد بالنسبة لي وكيف لا وقد وضعت فيه الرحال ببيت الله الحرام وقرت عيني برؤية الحرم والناس نيام، ثم سعيت مع الناس منذ الصباح الباكر للقيام بشعائر العمرة وذبت في الزحام، تسارعت الأحداث ومعها دقات قلبي، طواف بالبيت وتحية ثم صلاة وشربة هنيئة. هو ماء زمزم نشرب منه حتى نروى ثم نطوف سبع أشواط بين الصفا والمروة، نسير على خطى أمنا هاجر وألسنتنا لا تفتأ تسبيحا ودعاءا.. يا لها من ذكرى يطير لها الفؤاد شوقا، اللهم تقبل أعمالنا وارزقنا وإخواننا الحج إلى بيتك الحرام.

وَمَا  زَالَ  وَفْدُ   اللَّهِ   يَقْصِدُ   مَكَةً         إِلَى  أَنْ  بَدَا  الْبَيْتُ  الْعَتِيقُ  وَرُكْنَاهُ
فَضَجَّتْ ضُيُوفُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَا           وَكَبَّرَتِ   الْحُجَّاجُ   حِينَ    رَأَيْنَاهُ
وَقَدْ كَادَتِ  الأَرْوَاحُ  تَزْهَقُ  فَرْحَةً           لِمَا نَحْنُ مِنْ عُظْمِ السُّرُورِ  وَجَدْنَاهُ
تُصَافِحُنَا  الأَمْلاكُ  مَنْ  كَانَ  رَاكِبًا          وَتَعْتَنِقُ     الْمَاشِي     إِذَا     تَتَلَقَّاهُ



الله أكبر

جلست أنا وعمتي في ركن من أركان المسجد الواسع الشاسع وتعالى صوت الإمام السديس بخطبة زكية في عربية جميلة وتعابير غنية. ثم حان وقت الصلاة ..وقد أكرمني ربي بأحسن اللحظات ..

الفاتحة ثم الغاشية .. تلك السورة التي لطالما استمعت لها في تسجيل للشيخ السديس على هاتفي الجوال فأصبحتُ بفضل مغير الأحوال، العزيز القدير المتعال، أستمع لها بعينها على الهواء مباشرة من الحرم المكي وبقراءة الشيخ نفسه، لكن هذه المرة لم يكن صوته منبعثا من السماعات بل كان يأتيني مجلجلا  قويا رائعا مدويا في أركان بيت الله الحرام فيا لها من نعمة عظيمة وعطية كريمة ومنة إلاهية جسيمة، هي لحظة تاريخية كتبها الله لي من غير حول لي ولا قوة، فالحمد لله وحده صدق عبده ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده وأقام دينه وحمى بيته ففر الناس إليه على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم، فلا تسمع إلا تكبيرا وتهليلا وتحميدا ودعاءا وابتهالا وبكاءا.. الكل منشغل بربه عن غيره، يدعوه ويرجو عفوه ورضاه ورحمته.. خُيل لي و كأن المشهد أشبه بيوم الحشر فقد هب الناس من كل فج عميق، وجهتهم واحدة إلى البيت العتيق، تنظر لهم فلا تعرف فقيرهم من غنيهم ولا ضعيفهم من قويهم هنا يتساوى الناس وتُلغى الجنسيات والألسنة والأجناس فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى .. ويا لها من عِبرة تنزل لها العَبرة .. تلو الأخرى..

روى البخاري و مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) 

هذا هو الجهاد بعينه، لا بد من الصبر والجهد والعزم، قد تقطع طريقك سلسلة بشرية، قد يتدافع الناس من حولك فتتصادم المناكب وتشوب نفسك الشوائب ولكن لا تتوقف ولا تتأفف.. فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج .. والعمرة هي تمرين مصغر من الحج ..

عدت إلى بلادي وقلبي يتفطر ألما .. تركت المسجد الحرام ومن قبله مسجد خير الأنام .. كنت في تونس وقلبي يرفرف فوق المدينة لأيام .. اشتقت لك يا رسول الله، طال بي الانتظار يا الله فهل إلى مرد من سبيل ؟ كم أتمنى أن أعود ... وأرجو لإخواني جميعا بالمثل.. اللهم لا تحرمنا يا رحمان.

كم جميل أن أرى الشباب العربي خاصة يهب للحج على صغر سنه وكم حزين أن أرى بني جلدتي قد غزا رؤوسهم الشيب وردوا إلى أرذل العمر وخارت بهم القوى فلم تعد تحملهم أرجلهم ولا يتحملهم من حولهم، قد صعبت عليهم الشقة فلا تسمع إلا أنينا وتذمرا .. يا الله لنعد ترتيب أولوياتنا من جديد ..لنقل : وعجلت إليك ربي لترضى..

فَفِي    رَبْعِهِمْ    لِلَّهِ    بَيْتٌ    مُبَارَكٌ          إِلَيْهِ   قُلُوبُ   الْخَلْقِ   تَهْوِي   وَتَهْوَاهُ
يَطُوفُ   بِهِ    الْجَانِي    فَيُغْفَرُ    ذَنْبُهُ         وَيَسْقُطُ    عَنْهُ     جُرْمُهُ     وَخَطَايَاهُ
فَكَمْ    لَذَّةٍ    كَمْ    فَرْحَةٍ    لِطَوَافِهِ               فَلِلَّهِ   مَا   أَحْلَى   الطَّوَافَ    وَأَهْنَاهُ
نَطُوفُ  كَأَنَّا   فِي   الْجِنَانِ   نَطُوفَُهَا             وَلا   هَمَّ   لا    غَمَّ    فَذَاكَ    نَفَيْنَاه
فَوَاشَوْقَنَا    نَحْوَ    الطَّوَافِ    وَطِيبِهِ           فَذَلِكَ    شَوْقٌ    لا     يُعَبَّرُ     مَعْنَاهُ
فَمَنْ  لَمْ  يَذُقْهُ   لَمْ   يَذُقْ   قَطُّ   لَذَّةً                فَذُقْهُ  تَذُقْ  يَا  صَاحِ  مَا  قَدَ   أُذِقْنَاهُ
فَوَاللَّهِ   مَا   نَنْسَى   الْحِمَى   فَقُُلُوبُنَا             هُنَاكَ   تَرَكْنَاهَا   فَيَا   كَيْفَ    نَنْسَاهُ
تُرَى   رَجْعَةً   هَلْ    عَوْدَةٌ    لِطَوَافِنَا          وَذَاكَ   الْحِمَى   قَبْلَ   الْمَنِيَّةِ   نَغْشَاهُ




ملاحظات  : هذه الصور أصلية
 القصيدة لابن الأمير الصنعاني