الجمعة، 23 سبتمبر 2011

لقَنتني درسا



كنا نتجاذب أطراف الحديث لنختزل المسافات وطول الطريق، ثم انتبهتُ إلى الوقت. الشمس أوشكت على المغيب ولم أقم بأذكار المساء بعد. فأخبرت صديقتي والحافلة تسير بنا عبر الطريق السيارة أني سأنشغل عنها قليلا بأذكار المساء، حتى يتسنى لي التركيز من ناحية، و من ناحية أخرى علها تنسج على منوالي. ثم تذكرتُ ما تعلمته حديثا من وجوب التلفظ بالأذكار وكذلك الحال عند تلاوة القرآن فلا تُعتبر قراءة كاملة يُنال بها عظيم الثواب وترضي العزيز التواب إلا إذا كانت جهرا، نابعة من القلب و مصدقة باللسان. أخبرت صديقتي بذلك فأجابتني في اندهاش بأنها لم تكن تعلم بوجود هذه القاعدة الذهبية إلا أنها بطبيعتها لا تقرأ القرآن الكريم إلا جهرا لأنها تركز أكثر بهذه الطريقة  وقد حفظت منه الكثير..


صديقتي هذه متزوجة حديثا، تعرفتُ عليها في الحافلة بحكم تنقلنا كل يوم جيئة وذهابا بين بلدتنا الأصلية والعاصمة. وقد رأيت من دماثة أخلاقها وحسن سلوكها والابتسامة التي لا تفارق محياها بل وحبها للدين والحياء ما جعلني أتحسر على عدم التزامها بالحجاب. بل إني شعرت باستياء شديد عندما رأيتها في ملابسها الجديدة التي لا تمت للحجاب بصلة وكنت أتسائل ما الذي يمنعها من الالتزام بالزي الشرعي؟ لماذا تتغير بعض الفتيات بعد الزواج و تصبح عاشقة لمساحيق التجميل و كثرة الزينة أمام الملأ؟؟ ما بال الأزواج لا تحركهم الغيرة ! ألا يخاف الواحد منهم أن يُكتب عند الله ديوثا ؟!

عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم قال : ثلاثةٌ قد حَرّمَ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عليهم الجنةَ : مُدْمِنُ الخمر ، والعاقّ ، والدّيّوثُ الذي يُقِرُّ في أَهْلِهِ الخُبْثَ . رواه أحمد والنسائي .

جعلت تحدثني بعفويتها المعهودة كيف كانت تقرأ القرآن وتحفظه، قالت: "عاد أبي من العمرة وجلب معه شرائط مسجلة للقرآن الكريم بصوت القارئ الشيخ عبد الرحمان السديس، فكنت أضع السماعات في أذني و أمسك المصحف بين يدي فلا أزال أستمع له وأقرأ معه وأتابعه حتى حفظت من القرآن الكثير"

-          جميل، تبارك الله ... ماهي السور التي حفظتها مثلا بهذه الطريقة؟
-          سورة البقرة
-          البقرة؟ ما شاء الله، بارك الله فيك ..
-          كان أول يوم في رمضان .. منذ سنوات .. فقررت أن أحفظ تلك السورة هكذا بدا لي.
-          نعم .. ذاك توفيق من الله
-          واظبت على الحفظ كل ليلة فما انقضى الشهرالكريم إلا وقد شاطرتها... فيها آيات صعبة وطويلة لكني والحمد لله، أتمتع بذاكرة جيدة. يكفي أن أسمع الآية ثلاث أو أربع مرات لترسخ في ذهني.
 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجعلوا  بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة " . رواه مسلم.

 قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة"

-     لا بد أنك حفظتها منذ زمن طويل، أليس كذلك؟ (كنت أطمع أن تقول لي نعم حفظتها عندما كنت في الثانوية مثلا، فأعزي نفسي بأنها تمكنت من ذلك لأنها صغيرة ومتفرغة للحفظ )
-          لا أبدا بل حفظتها منذ عامين تقريبا ..
-          وهل مازلت تحفظينها عن ظهر قلب إلى اليوم؟
-          نعم الحمد لله، أراجعها من حين لآخر فلا أجد صعوبة في استحضارها
-          وتحفظين جزء عم ؟
-          طبعا، حفظناه منذ الصغر..
-          نعم.. لكننا نسيناه.. أنا نسيت منه الكثير.. ,إلى الآن لا أحفظ جزء عم كاملا ..
قلتها بحسرة وألم شديدين، بل بخجل وذل وانكسار، استحييت من نفسي .. أنهيت أذكاري واستغرقت في أفكاري.. يا للمفاجأة السارة، هاهي ذي رفيقتي في السفر لقنًتني درسا دون أن تشعر.. كم من الوقت أقضي مع كتاب الله يوميا؟ في أحسن الأحوال أتمكن من قراءة الورد اليومي بنصف تركيز ثم ماذا؟ أوفيت القرآن حقه؟ بل أوفيت نفسي حقها وهي في أمس الحاجة إلى الارتواء بكلام ربها والنهل من فيض عطائه وبديع بيانه؟ أم تُراني مستغنية عن عظيم الثواب وسبب البركات؟

هل أنا حقا في غنى عن استزادة الحسنات مع ما أجترح كل يوم من السيئات؟ أين أنا من أجلّ العبادات؟ أين أنا من التفكر والتدبر والتمعن في الآيات؟ أين أنا من بحر التفسير و إبداع التلاوات ؟ إلى متى يا نفس ستظلين مستسلمة للدنيا منساقة إلى دوامة الحياة؟ أنسيت أن غدا الممات ؟ فماذا أعددت له؟ ذرائع واهية واعتذارات؟ ألم تري أولئك الأطفال في أزباكستان، يجهلون العربية ويحفظون القرآن؟ وهم صبيان ! وهذه صديقتي لها خمس سنوات تشتغل وعامان في السفرات اليومية إلى العمل، اشتغلت .. تعبت ..و ما انشغلت، فما أثناها شيء عن حفظ القرآن و لا حتى في رمضان، بارك الله لها و زادها من نعيمه إن شاء الله.

عن عثمان -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " أخرجه البخاري

 ترى ماذا فعلتُ أنا في ذاك العام عندما كانت هي تُحيي القرآن في شهر الصيام؟  

تراءت لي نفسي وأنا أضيعها أمام الحاسوب، أتحدث عن البرامج التلفزية وأُعلق على التفاهات والومضات الإشهارية، يا للتصرفات الكارثية الصبيانية ! سبحانك ربي ما عبدتك حق عبادتك !

هي ليست محجبة لكنها قامت بعمل لا يعلم ثوابه إلا الله وأرجو أن يتقبل الله منها صالح الأعمال ولا تكون من الذين قيل فيهم : "رُب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه"، نسأل الله العفو والعافية. هي ليست محجبة لكن الله وفقها لحفظ سورة البقرة التي تحاج عن صاحبها يوم القيامة. هي تبدو متهاونة متساهلة بأوامر الله لكنها لقنتني درسا لن أنساه بإذن الله. جزاها الله عني خيرا وهدى قلبها للباس التقوى والحياء حتى تكتمل الصورة المشرقة للمسلمة المتحجبة التقية النقية الذكية الورعة.

عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة " . رواه مسلم .

 " وَلَقَدْ أنْزَلْنَا القُرْآنَ للذِكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدكرْ "

هل من مدكر؟ اللهم اجعلنا منهم ..

الخميس، 15 سبتمبر 2011

فلينظر أحدكم من يُخالل




عجبا لمن تظاهر بالحب لفلان لمجرد مصلحة مرجية.. أتُرتجى المصالح الدنيوية و يُتَغافل عن المصلحة الوحيدة السمية؟؟ عجبا لمن أحب ثم اشتكى...ألم يعلم أن الحب في الله يلزمه إخلاص و عطاء من الطرفين؟؟ عجبا لمن يتذمر من صديقه, عجبا لمن ينسى و يمضي, عجبا لمن يسيئ وهو يدري...


مصلحة.. سمية؟؟  ماذا عساها تكون يا ترى؟


 هي تلك التي تجمع الأخلاء. أولئك الذين اختاروا الطريق الطويل فهم لا يرضون بالقليل و إنما يدا بيد يتحدون العسير. هم يوقنون أن مكوثهم في الدنيا مهما طال قصير,  لذلك ترى طموحهم لا يقل عن الفوز بحياة هنيئة و جنات فسيحة... لا يهددهم الموت فيها لا اليوم .. و لا بعد آلاف السنين.

*****
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هُمْ ؟ وَمَا أَعْمَالُهُمْ ؟ لَعَلَّنَا نُحِبُّهُمْ ، قَالَ : " قَوْمٌ يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا بَيْنَهُمْ ، وَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، لا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ ، وَلا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ ".ثُمَّ قَرَأَ: "أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" (سورة يونس, آية 62) رواه أبو داود
*****

هما صديقتان... بل أختان, جمعتهما مقاعد الدراسة و ما فرقتهما العطل و لا حتى سنين البطالة...


مختلفتان في المظهر, توأمتان في الفكر و المبدأ 


الأولى من عائلة راقية, لا تُرى إلا في الصف أو في باحة الكلية. و إذا خرجت فسرعان ما تختفي وسط سيارتها الرمادية.
الثانية لا تكاد تمتلك دراهم لشراء كتب ومراجع ضرورية. هي مجتهدة و محرزة على المراتب الأولى في كل السنوات الدراسية.

 هاتان الأختان متنافستان في الدراسة وكذلك في العبادة. تشجع إحداهما الأخرى, تفرح لفرحها و تشد أزرها عند محنتها. 

رغم الإختلاف اجتمعتا و تحـابتــا في الله ,و رغم قسوة الظروف صمدتــا وما توفيقهما إلا بالله.

تعودت الأولى على حضور بعض المحاضرات و متابعة التسجيلات النافعة على شبكة الأنترنات, و تعودت الثانية على  تجديد إشتراكها في بعض المكتبات أو تجميع دريهمات لشراء تلك الدرر التي كانت بالكاد تجدها متوفرة بالمعارض و المكتبات.

لم تكن الأولى تبخل على أختها بالتلاخيص و العبر من تلك الدروس القيمة و ما تعلمته من تلك المحاضرات؟

و كانت الثانية كريمة بعطائها فكما استعارت.. تعير, و إن اشترت .. تهدي و قبل هذا و ذاك كانت تجيد فن السرد و التشويق..

 لا تبخل الأولى على أختها بالزيارة و لا تبخل الثانية على أنيستها بحسن الضيافة و السؤال و لو ببضع دقائق على الهاتف فهما دائما على اتصال.

*****
وصى عمر بن الخطاب بوصية جامعة فقال: ( عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وغدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يُقليك منه، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، لا تطلعه على سرّك)
*****

أيامهما العادية حافلة منذ اختارتا الحياة الدعوية, بين الصلاة و التعلم و التعليم, بين الإجتهاد بصدق  و الصدقة , بين الرفق مع هذا وعيادة ذاك ... بين السر و العلانية كانتا تجددان التوبة و النية.

*****
قال عليه الصلاة والسلام: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليّ أن أعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهراً".- رواه الطبراني في المعجم الكبير-
*****

هما أخيتان معا ترجوان  بلوغ أعلى درجات الجنان و رؤية نورالله ذي الجلال و الإكرام..
هما خليلتان, إذا أخطأت الأولى بادرت الثانية بمسامحتها, تعاهدتا دون كلام أن تجد كل منهما عذرا لأختها
 وتتذكر المحاسن قبل المساوئ..هما تتذكران الممات في أحلى و أصعب اللحظات..

*****
 عن أبي هريرة عن النبي أنه قال:أن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه. رواه مسلم. (تفسير)
*****

كانت هذه قصة صغيرة عن أختين تحابتا في الله,هي قصة واقعية وليست وهمية, بين طياتها عبر و قدوة لمن أراد أن يكون له أنيس قبل أن توافيه المنية..


مهما كانت الوضعية المادية أو الحالة الاجتماعية, مهما كانت نسب التوافق و الاختلاف, مهما كانت طريقة التعبير وتباينت اللغات... مهما تعددت الوسائل أو قلت الامتيازات، يمكن أن نلتقي إذا سلكنا طريق النجاة, إذا استمسكنا بالعروة الوثقى و حافظنا على السنة  و طبقنا ما جاء في تلك الآيات المحكمات. ليس الأمر بالصعب أو المجحف, و ليست كلمات كتبت لتكون روايات, فالمحبة في الله هبة من الرحمن و من لم يرتوي بحلاوتها لا شك... ظمآن. 

*****
قال تعالى : " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" (الكهف (28
*****

الخميس، 8 سبتمبر 2011

لكل مجتهد نصيب.. فلنسأل أنفسنا ماذا تريد




رتبت غرفتها مبكرا, اشترت كتاب قرآن جديد مع كتاب تفسير مفيد, 
خصصت مكانا في زاوية من غرفتها, فرشت فيه سجادتها و أصبح ذلك مصلاها, فيه تصلي و تذكر الله كثيرا, فيه ترتل القرآن و تتعلم قواعد التجويد..
بضع دقائق تفصلها عن وقت صلاة العشاء
دخلت مصلاها, عدلت المكيف الهوائي, أحضرت قارورة ماء و بعض حبات من التمر تتزود بهن طوال الليل.


تصورت أنها آخر ليلة تقضيها في رمضان فرق قلبها, تصورت أنها ليلة القدر فخشعت جوارحها

الله أكبر

بدأت صلاتها.. بدأت أحلى لحظات حياتها..

على نفس المنوال كل ليلة, ركوع و سجود, أذكار و تجويد, دعاء و تهليل.. إلى طلوع الفجر.. إلى شروق الشمس. تبدأ يومها بأذكار الصباح ثم بركعتين يسيرتين, تسبغ الوضوء ثم تستلقي لتأخذ نصيبا من النوم و الراحة حتى تستعيد نشاطها و تجتهد أكثر في اليوم الجديد.

روى الإمام مسلم وأحمد والنسائي والترمذي عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط.
✿✿
رتبت غرفتها مبكرا, جمعت ما عندها من كتب قرآن و تجويد..

في آخر كل كتاب وضعت ورقة صغيرة للتذكير:
"كتاب للختمات السريعة"
"كتاب للتدبر في معاني الآيات و مراجعة التفسير"
"كتاب للترتيل و التجويد" ...

 ثم قامت بمسح الأرضية و إزالة الغبار عن الزوايا المنسية. 
 
اغتسلت ككل ليلة, تزينت بأحلى ملابس عندها, تعطرت... و جلست في مصلاها تستحضر قلبها و تجتهد في النوافل راجية من الله أن يكتبها, في رمضان هذا العام, من الساجدين القانتين. تعودت أن تجلس في مصلاها قبل سماع الأذان استعدادا للخشوع عند الصلاة علها بذلك ترضي الله و تبلغ أعلى الدرجات..

تملك سبحة صفراء قديمة, هي منذ سنين لها وفية. تعودت على الثلاثينية و المئوية في الأيام العادية, لكنها في رمضان هذا العام عزمت على بلوغ الألفية بين الأذكار و الأوردة اليومية..

يقول تعالى:
  " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا  (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43)" - الأحزاب –

الطقس حار الليلة, جبينها يتصبب عرقا, استعانت بالمروحة.. أحست بالنعاس بدأ يداعب جفنيها..

"كلا.. لن أهنأ و لن تزول أحزان قلبي حتى أبشر بالقبول.." رددت في نفسها

أحضرت إناءا به ماء قد أضافت إليه مكعبات ثلجية كي يحافظ على برودته طوال الليل, و استعانت بقطعة قماش قطنية, كلما أحست بفتور الجفون.. مسحت على وجهها بالماء البارد و استأنفت قيامها بنفس جديد.
✿✿
استعدت ولبست زي الخروج, حملت في جيبها بعض الدنانير علها تعترض محتاجا فتتصدق مما رزقها الله.

دخلت المسجد, أفشت السلام بصوت خافت, قامت بواجب تحية المسجد و جلست تقرأ القرآن والأذكار إلى حين يرتفع صوت المؤذن "الله أكبر"

صلت الفرض, ثم التراويح جماعة, أبكتها التلاوة...أبكتها كلمات الله و اهتزت جوارحها عند كل آية..

عادت إلى منزلها, قامت بواجباتها العائلية محتسبة في ذلك كل أعمالها و أنفاسها كطاعات للواحد الصمد, ثم أخذت قسطا من الراحة..."اللهم اشفني من النوم باليسير"

دق..دق..
من؟
أختي حبيبتي قومي, أنا ذاهب لصلاة التهجد في المسجد إن شاء الله,أنتظرك إن كنت تودين مرافقتي.

استيقظت نشطة, توضأت, لبست.. ثم خرجا معا.

صلت مع الحضور و بقيت في المسجد إلى ما بعد انقضاء صلاة الصبح.

روى الترمذي وقال حديث حسن مرفوعا: " من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تامة، تامة، تامة."
 
 دعت لنفسها, لأهلها, لبلادها,و للمسلمين كافة.

أحست بالطمأنينة تسري في قلبها..ثم بكثير من الخوف و الرهبة, استعاذت بالله من شر نفسها و من وساوس الشيطان و قالت لن أكون من القانطين ف"الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين واذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين" (الشعراء من الآية 78 إلى الآية 82)
✿✿
          اختلفت الوسائل, و مع ذلك تقاربت العزائم فالرجاء واحد: الفوز بالبراءة و تسليم رمضان متقبلا إن شاء الله.. اختلفت الوسائل و في الواقع لا يوجد شخص يملك امتيازات أكثر من غيره..إنما الأمر متعلق بالهمم, فكلما كانت الهمة عالية و أهدافها سامية كلما تلاشت الصعاب و اقتربنا من المراد.

          جاء رمضان فاستقبله المجتهدون و غفل عنه المتغافلون .. أسئلة طرحت "هل سأفوز هذه السنة بالعتق من النيران؟" " هل سأفوز بالبشرى و يكون هذا أحلى رمضان؟" " كيف سأكتب في ليلة القدر و باقي أيام الصيام؟"...

قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏" ‏ رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم ‏ ‏انسلخ ‏ ‏قبل أن يغفر له " رواه مسلم

          اختلفت الأهداف فتعددت الوسائل, نفوس مشفقة تسعى إلى  حياة هنية و أخرى صدقت أنها فعلا غنية. كل نفس مهما كانت تبدو رصينة و لها قوة عزيمة, لها زوايا لينة و أخرى هشة.. و المفلح فينا من صقل نفسه و زودها  بزاد التقوى الوفير لتتحد كل الزوايا و تتبع الدرب المنير.. اختلفت الوسائل و إن شاء الله لكل مجتهد نصيب.. فلنسأل أنفسنا ماذا تريد..



الاثنين، 5 سبتمبر 2011

أُثبت أُحُد




يوم مبارك و منير .. لكن في قلبها حزن دفين، فهو آخر أيام الشهر الكريم و كما جرت العادة لم تكن تقوى على فراقه ولم تكن راضية عن نفسها، شعرت بالحزن يتسرب إلى قلبها، بكت في صلاتها، دعت ربها فالوساوس بدأت تقلقها وأحلام اليقظة تداعب مخيلتها... يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أستغفرك ربي وأتوب إليك.

" دع البكاء على الأطلال والدار واذكر لمن بان من خل ومن جار

وذر الدموع نحيباً وابك من أسف على فراق ليال ذات أنوار

على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار

يا لائمي في البكاء زدني به كلفاً واسمع غريب أحاديث وأخبار

ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري"

انتهت من صلاتها، تناولت المصحف و الصداع لا يفارق رأسها وشرعت في القراءة. حزبان أبدأ بهما اليوم وأحافظ عليهما إن شاء الله غدا وبعد غد وكل يوم... هكذا وعدت نفسها.

أكملت وردها اليومي، سبحان الله وبحمده لقد ذهب الصداع !

تذكرت كتاب "الرحيق المختوم" – أحد أفضل الكتب المتخصصة في السيرة النبوية، و قد قال فيه مؤلفه (فضيلة الشيخ المباركفوري) بعد النجاح الذي لاقاه:" وقد قدر الله لهذا الكتاب من القبول ما لم أكن أرجوه وقت الكتابة، فقد نال المركز الأول في المسابقة، وأقبل عليه الخاصة والعامة إقبالا يغتبط عليه"- اشترته في رمضان ولم يسعفها الوقت لقراءته فآلت على نفسها أن تحيي الذكرى المحمدية  الزكية في شهر شوال. بل ستحيي نفسها وتذكي الإيمان في قلبها بالتعرف مرة أخرى على حياة سيد الأولين و الآخرين، الذي بُعث رحمة للعالمين، محمد ابن عبد الله, صلى الله عليه وسلم.

نعم سأحيا بالسيرة النبوية بعد رمضان ولن أدع لوساوس الشيطان في قلبي أي مكان. سأشغل نفسي بذكر ربي وبسيرة نبيي، سأشغل نفسي بكل ما ينفعني، لن أترك الحزن يتآكلني.. حسبي ربي وكفى !

ثم تذكرت أخواتها المؤمنات فتنهدت تنهيدة ارتياح و حمدت الله أن رزقها الصحبة الصالحة. باعدت بينهن المسافات ولكنهن معا، يجمعهن حب الله و الأعمال الصالحات. معا لن يتهاون في الطاعات بعد رمضان ولن يهزمهن الشيطان وهن متحدات... أبدا هيهات. ستظل هواتفهن ترن في الأسحار و سيُذكرن بعضهن البعض بتفسير آية، بمعنى حديث، بالاستغفار... سيتركن تلك الترهات و يتعاون بالنصح و الإرشاد، سيبلغن إن شاء الله أعلى الدرجات مادامت في قلوبهن تلك النيات الصادقات.

" وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا "(الكهف 28)

فكذلك حالهن بإذن الله..تشجع كل منهن أختها على الثبات، كيف لا وهن يطمعن أن يكن من المتقين الذين قال الله فيهم :

" الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ
 يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ"
(الزخرف 67-68)

رمضان ذهب وولى ولكن رب رمضان مازال ولا يزال وليس له زوال...

قيل لِبِشْرِ الحَافِي رحمه الله : إنَّ قَوماً يَتعبَّدون ويجتَهِدُون في رمضان ؟ فقال : بِئْسَ القومُ قومٌ لا يَعرفُونَ للهِ حَقَّاً إلَّا في شَهْرِ رَمَضَان ، إنَّ الصَّالحَ الذي يَتَعَبَّدُ ويَجْتَهِدُ السَّنَة كلَّها .

فلتكن همتك عالية إذا ولتحافظي على الطاعات و الإكثار من الخيرات واجتناب المنكرات عسى ربك أن يدخلك فسيح الجنات أنت و الأخوات .. هكذا لازالت تحدث نفسها.. "أُثبت أُحُد"..


قال البخاري رحمه الله في صحيحه :


حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ أُحُدًاوَأَبُو بَكْرٍ , وَعُمَرُ , وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ ، فَقَالَ : " اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ ".